فصل: السؤال الثاني: لم كرر قوله: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {فيه هدى} يجوز أن يكون {فيه} وحده حالًا من الإنجيل، و{هدى} فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون {فيه} خبرًا مقدّمًا، {وهدى} مبتدأ مؤخر، والجملة حال، و{مصدقًا} حال عَطْفًا على محل {فيه هدى} بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون {فيه} وَحْدَهُ هو الحال، فعطفت هذه الحال عليه، وأن يكون {فيه هدى} جملة اسمية محلُّها النصب، و{مصدقًا} عطف على محلِّهَا، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين:
أحدهما: أن أصل الحال أن تكون مفردة، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل.
الثاني: أن الجملة الاسمية الواقعة حالًا، الأكثر أن تأتي فيها بالواو، وإن كان فيها ضميرٌ- حتى زعم الفراء- وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذًّا، وكونُ {مصدقًا} حالًا من {الإنجيل} هو الظاهر.
وأجاز مكي بن أبي طالب- وتبعه أبو البقاء- أن يكون {مصدقًا}، الثاني حالًا أيضًا من عيسى كُرِّرَ توكيدًا.
قال ابن عطية: «وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني».
قال شهاب الدين: إذا جعلنا {وآتيناه} حالًا منه، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة؟
وقوله: {وهدى} الجمهور على النَّصْبِ، وهو على الحال: إمَّا من {الإنجيل}، عطفت هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من {عيسى} أي: ذا هُدًى وموعظة، أو هاديًا، أو جعل نفس الهدى مبالغة.
وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ، وجعل العامل فيه قوله تعالى: {آتيناه}، قال: وأنْ ينتصبا مفعولًا لهما لقوله: {وليحكم} كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم.
وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه {قَفَّيْنَا} أي: قفينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جعلا مفعولًا من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله تعالى لا إلى الإنجيل ليصح النصب، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلًا وزمانًا، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله: {وليحكم أهل الإنجيل} عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفه أيضًا في الزمان، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء.
و{للمتقين} يجوز أن يكون صفة لـ {موعظة}، ويجوز أن تكون «اللام» زائدة مقوية، و«المتقين» مفعول بـ {موعظة}، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله: [الطويل]
-...... وَرَهْبَةٌ ** عِقَابَكَ......

وقد تقدم الكلام على «الإنجيل» واشتقاقه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته.
وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم: {وهُدًى وموعِظَةٌ} بالرفع، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر، أي: وهو هدى وموعظة. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.السؤال الأول: إنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن كذلك، فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام، فلذلك قال في آخر هذه الآية {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ} [المائدة: 47] فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين؟

والجواب: معنى كون عيسى مصدقًا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزّل من عند الله، وأنه كان حقًا واجب العمل به قبل ورود النسخ.

.السؤال الثاني: لم كرر قوله: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}؟

والجواب: ليس فيه تكرار لأن في الأول: أن المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني: الإنجيل يصدق التوراة.

.السؤال الثالث: أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال: {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} وفيه مباحثات ثلاثة: أحدها: ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة: وثانيها: لم ذكر الهدى مرتين؟، وثالثها: لم خصصه بكونه موعظة للمتقين؟

والجواب على الأول: أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوّة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدىً، وأما كونه نورًا، فالمراد به كونه بيانًا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف، وأما كونه مصدقًا لما بين يديه، فيمكن حمله على كونه مبشرًا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبمقدمه وأما كونه هدىً مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم سبب لاهتداء الناس إلى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيهًا على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجًا إلى البيان والتقرير، وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما في قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].

.السؤال الرابع: قوله في صفة الإنجيل {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} عطف على ماذا؟

الجواب: أنه عطف على محل {فِيهِ هُدًى} ومحله النصب على الحال، والتقدير: وآتيناه الإنجيل حال كونه هدىً ونورًا ومصدقًا لما بين يديه. اهـ.

.السؤال الخامس: فإن قيل: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم.
والثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، مما لم يصر منسوخًا بالقرآن، والثالث: المراد من قوله: زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعنى بقوله: {وَلْيَحْكُمْ} أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (47):

قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها، عطف عليه قوله: {وليحكم} في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم {أهل الإنجيل} وهم أتباع عيسى عليه السلام {بما أنزل الله} أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال {فيه} من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام.
ولما كان التقدير: فمن انتهى فأولئك هم المسلمون، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون، عطف عليه قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء، وكل شيء إليه مفتقر، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره؛ وهو غير منسوخ، تدينًا بتركه أو لشهوة دعت {فأولئك} أي البعداء عن كل خير البغضاء {هم الفاسقون} أي المختصون بكمال الفسق، فإن كان تدينًا كان كفرًا، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى، فمن ترك الحكم تكذيبًا فقد جمع الدركات الثلاث: ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن، فانحط إلى أقبح المساوي؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة، لأن المعنى: ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمنًا على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر لأنه من الظلام، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع، فكان الآخر أولًا في المعنى والأول نهاية في الحقيقة، والآية دالة على أن فيه أحكامًا، وكذا قوله تعالى في آل عمران: {ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم} [آل عمران: 5]، وهذا هو الحق، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله، وغيَّر أيضًا غير ذلك من أحكامهم؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى: سمعتم ما قيل للأولين: لا تقتل، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة، ومن قال لأخيه: أحمق، فقد وجبت عليه نار جهنم، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح، وامض أولًا وصالح أخاك، وحينئذ فائت وقدم قربانك، كن متفهمًا من خصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن؛ وفي إنجيل لوقا: إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم: إن المطر يأتي؛ فيكون كذلك، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم: سيكون حر، يا مراؤون! تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم! لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن؛ وقال متى: الحق الحق أقول لك! إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، سمعتم ما قيل للأولين: لا تزن، وأنا أقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم، قيل: إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق، وأنا أقول لكم: إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضًا سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا اقول لكم: إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضًا سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا أقول لكم: لا تحلفوا ألبتة لا بالسماء فإنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطىء قدميه، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء، ولتكن كلمتكم: نعم ونعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشر، سمعتم ما قيل: العين بالعين والسن بالسن، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك، ومن سخّرك ميلًا فامض مع اثنين، قال لوقا: وكل من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم؛ وقال متى: سمعتم ما قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، وأنا أقول لكم: حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى من أبغضكم- وقال لوقا: يبغضكم- وصلوا على من يطردكم ويحزنكم، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم! أليس العشارون يفعلون مثل ذلك! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم! أليس كذلك يفعل العشارون! وقال لوقا: إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم! إن الخطأة يحبون من يحبهم، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم! إن الخطأة هكذا يصنعون، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم! إن الخطأة أيضًا يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف، وقال متى: كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل.